تُعدّ ذكرى خراب الهيكل، المعروفة في اليهودية باسم "تسعة آب" أو "طيشا بآف" (Tisha B'Av)، يوماً سنوياً للحداد العميق والصيام، وهو أحد أكثر الأيام حزنًا وأهمية في التقويم اليهودي. لا يقتصر إحياء هذا اليوم على استذكار تدمير معابد القدس المقدسة فحسب، بل يشمل أيضاً استحضار سلسلة طويلة من الكوارث والمآسي التي ألمّت بالشعب اليهودي عبر آلاف السنين، والتي تزامن وقوع العديد منها على نحو مأساوي مع هذا التاريخ بالذات. إنه يوم للتأمل في التاريخ، والتوبة، وتجديد الأمل في الخلاص والمستقبل.
خراب الهيكل الأول: نهاية حقبة سليمان
من بين أقدم وأبرز الكوارث التي تُخلّد في تسعة آب هو التدمير المروّع للهيكل الأول، المعروف أيضاً باسم هيكل سليمان. وقع هذا الحدث الجلل في عام 586 قبل الميلاد، عندما اجتاحت جيوش الإمبراطورية البابلية الحديثة، بقيادة الملك نبوخذ نصر الثاني، مدينة القدس. لم يقتصر دمارهم على إسقاط المدينة فحسب، بل امتد ليشمل حرق الهيكل العظيم الذي كان مركز العبادة اليهودية وموطن تابوت العهد. أدى هذا التدمير إلى نهاية مملكة يهوذا، ونفي الآلاف من اليهود إلى بابل، في فترة عُرفت بـ "السبي البابلي" الذي دام 70 عاماً. كان الهيكل الأول، الذي بُني بيد الملك سليمان في القرن العاشر قبل الميلاد، رمزًا لوجود الله بين شعبه، وكان خرابُه يُمثل صدمة روحية ووطنية كبرى لا تزال تتردد أصداؤها حتى اليوم.
دمار الهيكل الثاني: بداية الشتات الطويل
بعد قرون من إعادة بناء الحياة والعبادة في القدس وعودة المسبيين، وتحديداً في عام 70 ميلادي، شهد التاريخ اليهودي كارثة أخرى لا تقل فداحة: تدمير الهيكل الثاني. في هذه المرة، كانت الإمبراطورية الرومانية هي القوة الغازية، حيث حاصر القائد الروماني تيتوس (الذي أصبح لاحقاً إمبراطوراً) مدينة القدس ودمّرها بشكل وحشي بعد ثورة يهودية كبرى. لم يكن الهيكل الثاني مجرد مبنى ديني، بل كان قلب الحياة السياسية والاجتماعية للشعب اليهودي في أرضه. وقد أدت هذه الفاجعة إلى تشتت اليهود في جميع أنحاء العالم، وهي بداية حقبة الشتات الطويل (الدياسبورا) التي استمرت لحوالي ألفي عام، وغيرت بشكل جذري طبيعة العبادة اليهودية من الطقوس القائمة على الهيكل وتقديم القرابين إلى التركيز على الصلاة ودراسة التوراة في المجتمعات المحلية (الكُنُس).
كوارث أخرى مرتبطة بيوم تسعة آب
تؤكد التقاليد اليهودية أن يوم تسعة آب ارتبط بالعديد من المآسي التاريخية الأخرى، مما جعله يوماً ذا دلالة قدرية على الحزن العميق. من هذه الأحداث المروعة التي تُعزى إلى هذا التاريخ:
- فشل الجواسيس: يُعتقد أن في هذا اليوم رفض الجواسيس الاثنا عشر الذين أرسلهم موسى لاستكشاف أرض كنعان الدخول إليها بسبب خوفهم وعدم ثقتهم بقدرة الله، مما أدى إلى عقاب إلهي بتيه بني إسرائيل في الصحراء لمدة أربعين عامًا حتى يموت جيل الكبار.
- سقوط بيتر: يُقال إن مدينة بيتر (Betar)، القلعة الأخيرة لثورة بار كوخبا ضد الرومان، سقطت في أيدي الرومان في هذا اليوم عام 135 ميلادي، مما أنهى آمال اليهود في استعادة استقلالهم بعد عقود قليلة من دمار الهيكل الثاني.
- الطرد من إنجلترا وإسبانيا: تشير بعض المصادر إلى أن مرسوم الطرد الذي أصدره الملك إدوارد الأول لطرد جميع اليهود من إنجلترا عام 1290، ومرسوم الحمراء الذي أصدره الملكان الكاثوليكيان لفرديناند وإيزابيلا لطرد اليهود من إسبانيا عام 1492، قد وقعا أو بدء تنفيذهما في هذا التاريخ، مما أضاف طبقات من المعاناة الكبرى إلى هذا اليوم الحزين.
كيف يتم إحياء ذكرى تسعة آب؟
يُعد يوم تسعة آب صياماً كاملاً يمتد من غروب الشمس في اليوم الثامن من آب حتى غروب الشمس في اليوم التالي، يمتنع فيه اليهود عن الطعام والشراب، حتى قطرة الماء. إضافة إلى ذلك، هناك العديد من مظاهر الحداد التي تُمارس في هذا اليوم، تشمل:
- تجنب الاستحمام، ووضع مستحضرات التجميل، وارتداء الأحذية الجلدية، والاستماع إلى الموسيقى، أو أي شكل من أشكال المتعة.
- الجلوس على الأرض أو على كراسي منخفضة، تعبيراً عن التواضع والحزن الشديد.
- قراءة سفر مراثي إرميا (إيخا) بصوت حزين في الكُنُس، والذي يصف الدمار الذي لحق بالقدس والهيكل والفجيعة التي أصابت الشعب.
- تلاوة ترانيم ومراثي خاصة تُعرف بـ "كينوت" (Kinot)، تصف الفظائع التي وقعت على مر التاريخ، من الدمار القديم إلى المذابح الحديثة.
يُعتبر هذا اليوم فرصة للتأمل في العواقب المترتبة على الانقسامات والكراهية الداخلية، حيث تُعزي التقاليد اليهودية سبب تدمير الهيكل الثاني إلى "الكراهية بلا سبب" (شِنْآَت حِينَّام - Sinat Chinam) بين اليهود أنفسهم. وبالتالي، فإن إحياء هذا اليوم هو دعوة للوحدة، والتعاطف، والتسامح، والعمل من أجل عالم أفضل تسوده السلام، مع الأمل الدائم في بناء الهيكل الثالث ونهاية جميع المآسي، ووصول العصر المسيحاني.
أسئلة متكررة حول تسعة آب
- ما هو تسعة آب (طيشا بآف)؟
- إنه اليوم الأشد حزناً وصياماً في التقويم اليهودي، يُخلّد فيه تدمير الهيكلين الأول والثاني في القدس، بالإضافة إلى العديد من الكوارث التاريخية الأخرى التي أثرت على الشعب اليهودي.
- لماذا يتم صيام تسعة آب؟
- يُصام تسعة آب كعلامة على الحداد والتوبة والتأمل في الخسائر المأساوية التي لحقت بالشعب اليهودي. إنه ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل دعوة للتأمل الروحي والتغيير الشخصي والجماعي، وتجديد الالتزام بالقيم الدينية.
- هل يرتبط تسعة آب بأحداث أخرى غير تدمير الهيكل؟
- نعم، فبالإضافة إلى تدمير الهيكلين الأول والثاني، تُربط التقاليد اليهودية بهذا اليوم أحداثًا مأساوية أخرى مثل فشل الجواسيس في دخول أرض كنعان، وسقوط مدينة بيتر (التي أنهت ثورة بار كوخبا)، وطرد اليهود من إنجلترا وإسبانيا في العصور الوسطى.
- ما هو الهدف الروحي من إحياء ذكرى تسعة آب؟
- يهدف إحياء ذكرى تسعة آب إلى تذكير الشعب اليهودي بتاريخه الطويل من الصمود والمعاناة، ودعوته إلى الوحدة والابتعاد عن الكراهية غير المبررة (شِنْآَت حِينَّام) التي يُعتقد أنها كانت سبباً رئيسياً في دمار الهيكل الثاني. كما يجدد الأمل في الخلاص المستقبلي، وبناء الهيكل الثالث، وعصر يسوده السلام والوئام العالمي.