يُعد موسم العطلات الشتوية في الولايات المتحدة الأمريكية فترةً غنية بالاحتفالات والأعياد الوطنية، والتي تُضفي أجواءً من البهجة والتجمعات العائلية الدافئة. ومن بين أبرز هذه الأعياد وأكثرها خصوصيةً وتجذراً في الثقافة الأمريكية، يأتي عيد الشكر (Thanksgiving)، الذي يحتل مكانةً متفردة في قلوب الأمريكيين. يتم الاحتفال بهذا العيد السنوي في يوم الخميس الرابع من شهر نوفمبر، ليكون بمثابة انطلاقة رسمية لموسم الأعياد الذي يمتد حتى نهاية العام، بما في ذلك أعياد الميلاد المجيدة ورأس السنة الميلادية.
الجذور التاريخية: من مهرجان حصاد إلى إعلان وطني
تعود جذور فكرة عيد الشكر إلى تقاليد عريقة تعنى بالامتنان على الحصاد الوفير والمواسم الجيدة، وهي ممارسة كانت شائعة في العديد من الثقافات حول العالم منذ آلاف السنين. أما في السياق الأمريكي، فيُعتقد أن أول احتفال بالشكر، والذي يُشار إليه غالباً، كان في عام 1621. وقد جمع هذا الاحتفال المستوطنين الأوروبيين الأوائل (المعروفين بالبليغريمز) وقبيلة الوامبانواغ الأصلية في بليموث، ماساتشوستس، حيث تقاسموا وليمةً احتفالاً بالحصاد الناجح وتعبيرًا عن السلام والتعاون. ومع ذلك، لم يكن هذا الاحتفال تقليداً سنوياً راسخاً أو معترفاً به على نطاق واسع في البداية، بل كان مجرد مناسبة عابرة.
الخطوة الأولى نحو ترسيخ عيد الشكر كحدث وطني جاءت في عام 1789، عندما أصدر الرئيس جورج واشنطن، بصفته أول رئيس للولايات المتحدة الوليدة، مرسوماً يدعو فيه الأمة إلى تخصيص يوم للشكر والاحتفال، وتحديداً يوم الخميس الأخير من نوفمبر. كان هذا المرسوم بمثابة دعوة للأمة بأكملها للتعبير عن امتنانها لله على النعم التي حظيت بها البلاد بعد تشكيل الدستور الجديد وإنهاء حرب الاستقلال الأمريكية، ما جعله أول إعلان رسمي لعيد الشكر على المستوى الفيدرالي.
تطور العيد: من احتفال متقطع إلى تقليد ثابت
رغم إعلان واشنطن، ظل الاحتفال بعيد الشكر متقطعاً وغير منتظم لسنوات عديدة، حيث كانت الولايات المختلفة تحتفل به في تواريخ متباينة، أو قد تمتنع عن الاحتفال به كلياً. بعض الرؤساء، مثل توماس جيفرسون، امتنعوا عن إصدار إعلانات رسمية لعيد الشكر بسبب مبادئ فصل الكنيسة عن الدولة التي كانوا يؤمنون بها بشدة. استمر هذا التذبذب حتى منتصف القرن التاسع عشر، عندما لعبت الكاتبة والمحررة المؤثرة سارة جوزيفا هيل دوراً محورياً في حملة استمرت لعقود من الزمن، حيث كتبت رسائل ومقالات عديدة للرؤساء والحكام للدعوة إلى جعل عيد الشكر عيداً وطنياً موحداً يُحتفل به في جميع أنحاء البلاد.
جاء التحول الأبرز في عام 1863، في خضم الحرب الأهلية الأمريكية المدمرة التي قسمت الأمة. حينها، أصدر الرئيس أبراهام لنكولن إعلاناً تاريخياً يحدد فيه يوم الخميس الأخير من نوفمبر من كل عام "يوماً وطنياً للشكر والتسبيح والاحتفال بالرحمة الإلهية". كانت خطوة لنكولن هذه تهدف إلى توحيد الأمة المنقسمة، وتقديم لحظة للتأمل والامتنان في زمن عصيب يسوده الدمار والحزن، مؤكداً على أهمية الوحدة والروح الوطنية حتى في أحلك الظروف وأكثرها قتامة.
تعديل الموعد: قرار فرانكلين روزفلت وتأثيره الاقتصادي
ظل عيد الشكر يُحتفل به في الخميس الأخير من نوفمبر وفقاً لإعلان لنكولن لأكثر من سبعة عقود. ومع ذلك، في عام 1939، وخلال فترة الكساد الكبير التي عصفت بالاقتصاد الأمريكي، قام الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت بتغيير موعد العيد ليُحتفل به في الخميس الرابع من نوفمبر. كان الدافع وراء هذا التغيير اقتصادياً بحتاً؛ ففي ذلك العام، كان هناك خمسة أيام خميس في نوفمبر، وكان الخميس الأخير سيجعل فترة التسوق بين عيد الشكر وعيد الميلاد أقصر بكثير، ما قد يؤثر سلباً على مبيعات التجزئة التي كانت البلاد بأمس الحاجة إليها لإنعاش الاقتصاد المتعثر. هذا التغيير، الذي عُرف لاحقاً باسم "فرانكسجيفنج" (Franksgiving) - وهو مزيج من اسم روزفلت وThanksgiving - أثار جدلاً واسعاً وانقساماً بين الولايات، حيث التزمت بعض الولايات بالموعد الجديد بينما فضلت أخرى الموعد التقليدي.
ولحل هذا الالتباس وتوحيد تاريخ الاحتفال، وفي عام 1941، أقر الكونغرس الأمريكي قانوناً يجعل عيد الشكر عيداً وطنياً دائماً يُحتفل به في يوم الخميس الرابع من نوفمبر. وهذا هو التاريخ الذي لا يزال معمولاً به حتى يومنا هذا، وقد أصبح جزءاً لا يتجزأ من النسيج الثقافي الأمريكي ومن تقويم العطلات الوطنية.
عيد الشكر اليوم: تقاليد عائلية وروح امتنان
في يومنا هذا، يُعتبر عيد الشكر مناسبةً محورية للعائلات والأصدقاء للتجمع وتبادل الامتنان على النعم التي منحها الله لهم. تتجلى الاحتفالات عادةً في وليمة غداء فاخرة تُعد محور العيد، حيث يُعد الديك الرومي المشوي الطبق الرئيسي بلا منازع، إلى جانب مجموعة واسعة من الأطباق الجانبية التقليدية التي تُعد بعناية فائقة، مثل حشوة الخبز اللذيذة، والبطاطا المهروسة الغنية، وصلصة التوت البري المنعشة، وفطيرة اليقطين (Pumpkin Pie) الشهيرة كحلوى أساسية. كما تشمل التقاليد الشائعة مشاهدة استعراضات عيد الشكر الكبرى، مثل استعراض ميسي السنوي الشهير في مدينة نيويورك، ومباريات كرة القدم الأمريكية المثيرة، والمشاركة في الأعمال الخيرية، بالإضافة إلى بداية موسم التسوق الجمعة السوداء (Black Friday) التي تلي العيد مباشرةً، والتي تشهد تخفيضات هائلة في المتاجر.
أسئلة شائعة حول عيد الشكر
- متى يُحتفل بعيد الشكر في الولايات المتحدة؟
- يُحتفل بعيد الشكر في الولايات المتحدة في يوم الخميس الرابع من شهر نوفمبر من كل عام. هذا التوقيت يجعله جسراً بين الخريف والشتاء، ومقدّمة لأعياد نهاية العام.
- من هو الرئيس الذي أعلن عيد الشكر عيداً وطنياً لأول مرة؟
- الرئيس جورج واشنطن هو أول من أصدر إعلاناً لدعوة الأمة للشكر في عام 1789. ومع ذلك، الرئيس أبراهام لنكولن هو الذي أعلن عيد الشكر كعيد وطني ثابت يُحتفل به سنوياً في عام 1863، مما رسّخ مكانته كتقليد دائم.
- لماذا تم تغيير موعد عيد الشكر؟
- غير الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت موعد عيد الشكر في عام 1939 لأسباب اقتصادية بحتة، بهدف إطالة موسم التسوق بين عيد الشكر وعيد الميلاد لتنشيط المبيعات وإنعاش الاقتصاد خلال فترة الكساد الكبير. تم تثبيت هذا الموعد رسمياً بموجب قانون صادر عن الكونغرس في عام 1941.
- ما هي الأطباق التقليدية لعيد الشكر؟
- الطبق الرئيسي التقليدي هو الديك الرومي المشوي، والذي يُعد رمزاً للاحتفال. تشمل الأطباق الجانبية الشائعة حشوة الخبز، البطاطا المهروسة، صلصة التوت البري، الخضروات المحمصة، وفطيرة اليقطين (Pumpkin Pie) كحلوى أساسية لا غنى عنها.
- ماذا يعني عيد الشكر للأمريكيين اليوم؟
- بالنسبة للأمريكيين، عيد الشكر هو وقت ثمين للتجمع العائلي، التعبير عن الامتنان للنعم والبركات في حياتهم، والتفكير في الإيجابيات. إنه يرمز إلى التقاليد المتوارثة، المشاركة، وبداية موسم الأعياد الشتوي الذي يعمه الدفء والبهجة.